فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} هذا كلام الربوبية المستغنية عن الخلق، فالله سبحانه وتعالى خلق الناس، ودعاهم إلى الإيمان به، وأن يحبوه؛ لأنه يحبهم، ويعطيهم، ولا يأخذ منهم؛ لأنه في غِنىً عن كل خلقه.
ويأتي الكلام عن الضُّر هنا بالمسِّ،: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} [يونس: 107].
ونحن نعلم أن هناك مسًا ولمسًا وإصابة.
وقوله سبحانه هنا عن الضر يشير إلى مجرد المسِّ، أي: الضر البسيط، ولا تَقُلْ: إن الضر ما دام صغيرًا فالخلق يقدرون عليه، فلا أحد يقدر على الضر أو النفع، قَلَّ الضر أم كَبُر، وكَثُر النفع أو قَلَّ، إلا بإذن من الله تعالى.
والحق سبحانه وتعالى يذكر الضر هنا بالمسّ، أي: أهو الالتصاقات، ولا يكشفه إلا الله سبحانه وتعالى.
ومن عظمته جَلَّ وعلا أنه ذكر مع المس بالضر، الكشفَ عنه، وهذه هي الرحمة. ثم يأتي سبحانه بالمقابل، وهو الخير، وحين يتحدث عنه الحق سبحانه، يؤكد أنه لا يرده. ونحن نجد كلمة: {يُصَيبُ} في وَصْف مجيْ الخير للإنسان، فالحق سبحانه يصيب به من يشاء مِنْ عباده. ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الآية بهذه النهاية الجميلة في قوله تعالى: {وَهُوَ الغفور الرحيم} [يونس: 107]. وهكذا تتضح لنا صورة جلال الخير المتجلي على العباد، ففي الشر جاء به مسًّا، ويكشفه، وفي الخير يصيب به العباد، ولا يمنعه.
والله تعالى هو الغفور الرحيم؛ لأنه سبحانه لو عامل الناس حتى المؤمنين منهم بما يفعلون لعاقبهم، ولكنه سبحانه غفور ورحيم؛ لأن رحمته سبقت غضبه؛ ولذلك نجده سبحانه في آيات النعمة يقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18].
وجاء الحق سبحانه بالشكِّ، فقال: {إِن} ولم يقل: إذا تعدون نعمة الله؛ لأن أمر لن يحدث، كما أن الإقبال على العَدِّ هو مظنَّة أنه يمكن أن يحصي؛ فقد تُعدُّ النقود، وقد يَعدّ الناظر طلاب المدرسة، لكن أحدًا لا يستطيع أن يُعدّ أو يُحصى حبَّات الرمال مثلًا.
وقال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [النحل: 18]. وهذا شَكُّ في أن تعدوا نِعمة الله.
ومن العجيب أن العدَّ يقتضي التجمع، والجمع لأشياء كثيرة، ولكنه سبحانه جاء هنا بكلمة مفردة هي: {نِعْمَةَ} ولم يقل: نِعَم فكأن كل نعمة واحدة مطمور فيها نِعَمٌ شتَّى. إذن: فلن نستطيع أن نعدَّ النِّعَم المطمورة في نعمة واحدة. وجاء الحق سبحانه بذكر عَدِّ النعم في آيتين: الآية الأولى تقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
والآية الثانية تقول: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
وصَدْر الآيتين واحد، ولكن عَجُزَ كل منهما مختلف، ففي الآية الأولى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وفي الآية الثانية: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
لأن النعمة لها مُنْعِم؛ ومُنْعَم عليه، والمنعَم عليه بذنوبه لا يستحق النعمة؛ لأنه ظلوم وكفار، ولكن المنعم سبحانه وتعالى غفور ورحيم، ففي آية جاء مَلْحظ المنعِم، وفي آية أخرى جاء ملحظ المنعَم عليه.
ومن ناحية المنعَم عليه نجده ظَلُومًا كفَّارًا؛ لأنه يأخذ النعمة، ولا يشكر الله عليها.
ألم تَقْلُ السماء: يارب! ائذن لي أن أسقط كِسَفًا على ابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الأرض: ائذن لي أن أخسف بابن آدم؛ فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك.
وقالت الجبال: ائذن لي أن أسقط على ابن آدم.
وقال البحر: ائذن لي أن أغرق ابن آدم الذي طَعِم خيرك، ومنع شُكْرك.
هذا هو الكون الغيور على الله تعالى يريد أن يعاقب الإنسان، لكن الله سبحانه رب الجميع يقول: «دعوني وعبادي، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم». اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
خطاب لأهل مكة يقول: إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم، فبدأ أولًا بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيهًا لآرائهم، وأثبت ثانيًا من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم.
وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي.
دلالة على البدء وهو الخلق، وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيرًا ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله بعده، فهو الجدير بأنْ يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها.
وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر.
قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه.
وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ماتعبدون} وأمرت أن أكون أصله: بأن أكون، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة، مع أنّ وأنّ يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير: {فاصدع بما تؤمر} انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعًا لا قياسًا وهي: اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوّج، وصدّق، خلافًا لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو: بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين بالنصب.
وجواب إن كنتم في شك قوله: فلا أعبد، والتقدير: فأنا لا أعبد، لأنّ الفعل المنفي بلا إذا وقع جوابًا انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ.
وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.
{ومن عاد فينتقم الله منه} أي: فهو ينتقم الله منه.
وتضمن قوله: {فلا أعبد}، معنى فأنا مخالفكم.
وأن أقم يحتمل أنْ تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعى فيها المعنى.
لأن معنى قوله أنْ أكون كن من المؤمنين، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر.
وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو.
ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي: وأوحي إليّ أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأنّ أقم عطفًا على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى.
والوجه هنا المنحى، والمقصد أي: استقم للدين ولا تحد عنه، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين.
وحنيفًا: حال من الضمير في أقم، أو من المفعول.
وأجاز الزمخشري أن تكون حالًا من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف نهي، ويحتمل أن يكون معطوفًا على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير.
وإذا كان دعاء الأصنام منهيًا عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازًا أي: فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك.
وجواب الشرط فإنك وخبرها، وتوسطت إذًا بين اسم إنّ والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكنْ روعي في ذلك الفاصلة.
قال الحوفي: الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى.
وقال الزمخشري: إذا جواب الشرط، وجواب لجواب مقدر كان سائلًا سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك،: {إنّ الشرك لظلم عظيم} انتهى.
وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعًا في سورة البقرة.
ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك، وأتى في الضر بلفظ المس، وفي الخير بلفظ الإرادة، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأنّ مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله: {فلا كاشف له إلا هو}، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة.
وجاء جواب: وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب، وجاء جواب: وإن يردك بنفي عام، لأنّ ما أراده لا يرده رادّ لا هو ولا غيره، لأن إرادته قديمة لا تتغير، فلذلك لم يجيء التركيب فلا رادّ له إلا هو.
والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة، فإنها صفة ذات، وجاء فلا رادّ لفضله سمى الخير فضلًا إشعارًا بأنّ الخيور من الله تعالى، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل.
ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال: يصيب به من يشاء من عباده، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما: الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه.
ولما تقدم قوله: {ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك}، فأخر الضر، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر.
وأيضًا فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدئ بها.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ (قلت): كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعًا: الإرادة، والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا رادّ لما يريد منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأنّ ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الإنجاز، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله: {يصيب به من يشاء من عباده}، والمراد بالمشيئة المصلحة. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مَنْ دُونِ اللهِ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا خَتْمٌ لِلسُّورَةِ بِالنِّدَاءِ الْعَامِّ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ، أَجْمَلَتْ أَمْرًا وَنَهْيًا وَخَبَرًا فِي خَاتِمَتِهَا، كَمَا فَصَّلَتْ فِي جُمْلَتِهَا، قَالَ تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} أَيْ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ دِينِيَ الَّذِي دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ ثَبَاتِي وَاسْتِقَامَتِي عَلَيْهِ، وَتَرْجُونَ تَحْوِيلِي عَنْهُ {فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أَيْ فَلَا أَعْبُدُ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَلَا حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، أَحَدًا مِنَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ غَيْرَ اللهِ، مَنْ مَلَكٍ أَوْ بَشَرٍ؛ أَوْ كَوْكَبٍ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ، مِمَّا اتَّخَذْتُمْ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} أَيْ يَقْبِضُكُمْ إِلَيْهِ بِالْمَوْتِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فَيُحَاسِبُكُمْ وَيَجْزِيكُمْ، وَلَا يَفْعَلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ هَذَا وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} وَشَرْطُهُ يَدُلُّ عَلَى الشَّكِّ فِي شَكِّهِمْ وَهُوَ صلى الله عليه وسلم لَا يَشُكُّ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَزَلَّ دِينَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشُكُّوا فِيهِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ، وَتَأَلُّقِ نُورِهِ، كَمَا بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي تَفْسِيرِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (2: 23) الآية وَمَا بَعْدَهَا. وَوَصْفُ اللهِ بِتَوَفِّيهِمْ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، لِتَذْكِيرِ كُلٍّ مِنْهُمْ بِمَا لَا يَشُكُّ فِيهِ مِنْ عَاقِبَةِ أَمْرِهِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ كَمَا وَعَدَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الَّذِينَ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِهِ، وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ وَأَعْدَائِهِ، وَاسْتِخْلَافِهِمْ فِي أَرْضِهِ، وَإِنَّهُ لَإِيجَازٌ بَلِيغٌ.
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أَيْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَبِأَنْ أُقِيمَ وَجْهِيَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ حَالَةَ كَوْنِي حَنِيفًا، أَيْ مَائِلًا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْبَاطِلِ، وَلَكِنِ اخْتِيرَ هُنَا صِيغَةُ الطَّلَبِ وَفِيمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ الْخَبَرَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَةِ هَذَا الْأَمْرِ بِالْمَاضِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ، الْمَوْعُودِينَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ سُنَّةِ اللهِ فِي النَّبِيِّينَ، وَالطَّلَبُ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِعَلَاقَتِهِ هُوَ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنَ النَّهْيِ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، مِنْ دَعْوَةِ هَذَا الدِّينِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَائِرِ النَّاسِ- وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْرَابِ كَمَا حَقَّقَهُ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ- وَإِقَامَةُ الْوَجْهِ لِلدِّينِ هُنَا وَفِي سُورَةِ الرُّومِ (30- 43) عِبَارَةٌ عَنِ التَّوَجُّهِ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ فِي الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ بِدُونِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِهِ تَوَجُّهُ الْقَلْبِ، وَفِي مَعْنَاهُ: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا} (6: 79) وَمِثْلُهُ إِسْلَامُ الْوَجْهِ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ (2: 112) وَآلِ عِمْرَانَ (3: 20) وَالنِّسَاءِ (4: 125) وَإِسْلَامُهُ إِلَى اللهِ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ (31: 22) وَكَذَا تَوْجِيهُ الْوَجْهِ الْحِسِّيِّ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي آيَاتِهَا وَهُوَ الْأَصْلُ فِي اللُّغَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ وِجْهَةُ الْإِنْسَانِ، فَمَنْ تَوَجَّهَ قَلْبُهُ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ (وَلاسيما مُخِّ الْعِبَادَةِ وَرُوحِهَا وَهُوَ الدُّعَاءُ) إِلَى غَيْرِ اللهِ فَهُوَ عَابِدٌ لَهُ مُشْرِكٌ بِاللهِ، وَأَكَّدَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أَصْحَابِ الدِّيَانَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى حِجَابًا مِنَ الْوُسَطَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّفَعَاءِ يُوَجِّهُونَ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الشِّدَّةِ تُصِيبُهُمْ، وَالْحَاجَةِ الَّتِي تَسْتَعْصِي عَلَى كَسْبِهِمْ، وَوُجُوهَهُمْ وَجُمْلَتَهُمْ إِلَى صُوَرِهِمْ وَتَمَاثِيلِهِمْ فِي هَيَاكِلِهِمْ، أَوْ قُبُورِهِمْ فِي مَعَابِدِهِمْ، وَيَدْعُونَهُمْ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ إِمَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِمَّا بِشَفَاعَتِهِمْ وَوَسَاطَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا بِالْإِشَارَةِ إِلَى سَبَبِهِ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّهْيِ عَنْ مَثَلِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} أَيْ وَلَا تَدْعُ غَيْرَهُ تعالى: دُعَاءَ عِبَادَةٍ، وَهُوَ مَا فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَالْجَرْيِ عَلَى غَيْرِ الْمُعْتَادِ فِي طَلَبِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ لَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا عَلَى سَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ بِوَسَاطَةِ الشُّفَعَاءِ- مَا لَا يَنْفَعُكَ إِنْ دَعْوَتَهُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَسَاطَتِهِ، وَلَا يَضُرُّكَ إِنْ تَرَكْتَ دُعَاءَهُ وَلَا إِنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ {فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} أَيْ فَإِنْ فَعَلْتَ هَذَا بِأَنْ دَعَوْتَ غَيْرَهُ فَإِنَّكَ أَيُّهَا الْفَاعِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ طَغَامَةِ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمُ الظُّلْمَ الْأَكْبَرَ، وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي فَسَّرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (31: 13) فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ دُعَاءُ اللهِ وَحْدَهُ هُوَ أَعْظَمُ الْعِبَادَةِ وَمُخُّهَا- كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ- كَانَ دُعَاءُ غَيْرِهِ هُوَ مُعْظَمُ الشِّرْكِ وَمُخُّهُ، كَمَا كَرَّرْنَا التَّصْرِيحَ بِهِ بِتَكْرَارِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاهِيَةِ عَنْهُ، وَمِنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَوْلُهُ تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ} (218) وَقَوْلُهُ: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ} (49) وَقَوْلُهُ قَبْلَهُمَا: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} (12)